مقالة خاصة: الملاعب الترابية في الخرطوم.. علاج جماعي من صدمة الحرب
الخرطوم 20 أكتوبر 2025 (شينخوا) بين بيوت نصفها مهدّم ونصفها الآخر يسكنه الحذر في منطقة الحارات بمدينة أم درمان الواقعة شمالي العاصمة السودانية الخرطوم، تمتد ساحة ترابية غير مستوية، محاطة بأطراف من الركام وأشجار ذابلة، حيث يضع الأطفال حجرين صغيرين لتحديد المرمى، قبل أن ينتشر الغبار في الهواء حين تركل أول قدم الكرة.
ومع ساعات العصر، تضج الساحة الترابية في الحارة (95) في "غرب الحارات" بأم درمان بالحركة، حين تتجمع مجموعات من الصبية والشباب في ملعب بدون خطوط واضحة وبدون حكم ومدرجات، لكن الجمهور من الأطفال والنساء والشيوخ، يجلسون على أطراف الساحة فوق حجارة أو صناديق مكسورة.
في هذه اللحظات، لا أحد يتحدث عن الحرب، ولا عن الجوع، ولا عن النزوح، الحديث الوحيد هو عن "الهدف"، عن "التمرير"، عن "اللعب الجميل"، وكأن الرياضة تحوّلت إلى علاج جماعي من الصدمة، ولغة بديلة للتنفّس.
وقال معز خليل، وهو لاعب من أكاديمية المعلم الرياضية للبراعم والناشئين بالحارة (95) إن "هذه الساحات أصبحت متنفسا للأسر والعائلات، نمارس كرة القدم هنا رغم عدم توفر الأدوات المطلوبة".
وأضاف خليل لوكالة أنباء ((شينخوا)) "في هذه الملاعب الترابية لا شباك تحمي المرمى، ولا مدرجات، ولا يوجد زيّ موحد، فقط نهتم لممارسة نشاطنا ونحاول استعادة إيقاع الحياة".
ومنذ منتصف أبريل 2023، يشهد السودان حربا ألقت بظلالها على النشاط الرياضي في البلاد خاصة كرة القدم.
وأدت الحرب إلى تعليق الدوري الممتاز، بينما تأثرت البنية التحتية الرياضية خاصة في الملاعب الرئيسية وأبرزها استاد الخرطوم ، واستادا الهلال والمريخ بمدينة أم درمان.
وعلى الرغم من استئناف دوريات محلية في بعض المدن في يناير 2025، إلا أن البطولات الرئيسية وأبرزها الدوري العام وكأس السودان لم تستأنف بعد.
وفي 21 مارس الماضي أعلن الجيش السوداني استعادة السيطرة على القصر الجمهوري وسط العاصمة بعد معارك مع قوات الدعم السريع قبل شهرين من إعلانه اكتمال "تطهير" ولاية الخرطوم وسط البلاد وخلوها "تماما" من قوات الدعم السريع.
وقال سامي عبد الرحمن، وهو لاعب سابق في أحد أندية الدرجة الثالثة "كنا نعيش في خوف دائم، ثم بدأنا نلعب في الساحة كل يوم، الكرة أعادت لنا إحساسنا بأننا ما زلنا بشر، لسنا فقط ناجين".
وأضاف "في كل ركلة كرة، نفرغ شيئا من غضبنا وخوفنا وذكرياتنا الثقيلة، بالنسبة لنا لم تعد كرة القدم مجرد تسلية، بل نوعا من العلاج الجماعي من صدمة الحرب".
وتقام المباريات بلا تنظيم رسمي، لكنها تملأ فراغا كبيرا في المدينة التي فقدت الكثير من ملامحها.
وأوضح عبد الله النور، وهو أخصائي اجتماعي يعمل مع مبادرة شبابية لدعم المتأثرين بالحرب أن "اللعب في الساحات يساعد الناس على التنفيس العاطفي، يخلق شعورا بالانتماء والأمان المؤقت، حتى من فقدوا بيوتهم يجدون في الفريق بيتا جديدا".
وأشار إلى أن "الإنسان حين يعيش صدمة مستمرة، يبحث عن أنماط جماعية للتنفيس، والرياضة، خصوصا كرة القدم، تُعيد الإحساس بالانتماء، وتنظم الفوضى داخل النفس".
وتابع "في مثل البيئة التي أوجدتها الحرب، يصبح الركض خلف كرة صغيرة شكلا من أشكال المقاومة، مقاومة الإنهيار النفسي".
وتجمع الساحات الترابية شبانا من خلفيات مختلفة، من شمال السودان وجنوبه، من غربه وشرقه، من نازحين وسكان أصليين، لا يسأل أحد عن قبيلة الآخر أو عن موقفه من الحرب، ما يهم فقط هو من يسجل الهدف القادم.
وقال عمر علي، وهو نازح إلى أم درمان يلعب في فريق الحي الجديد الذي لجأ إليه "هنا لا أحد يسألني من أين أتيت، في الميدان نحن فريق واحد، نكسب أو نخسر معا".
وأضاف "كنا مكتئبين، لا عمل ولا أي برامج أخرى للترفيه، بدأنا نلعب لننسى قليلا، الآن صارت كرة القدم أهم لحظة في يومنا".
وتصف مبادرات مجتمعية شبابية ظاهرة "الكرة الترابية" بأنها واحدة من أكثر أشكال الدعم النفسي الفعّالة بعد الحرب، فاللعب هنا ليس ترفا، بل مساحة لتفريغ الضغط والخوف والغضب.
وقالت آمنة التجاني، وهي متطوعة في مبادرة (نلعب لنعيش) إن "الشباب الذين فقدوا أقاربهم أو بيوتهم يجدون في اللعب وسيلة لاستعادة توازنهم، الكرة تمنحهم هدفا، ولو مؤقتا".
ورأت آمنة أن "كرة القدم هنا تمارس دورا أبعد من الرياضة، إنها تعيد بناء النسيج الاجتماعي الذي تمزق، وتعيد للناس احساسهم بأنهم مجتمع واحد يتشارك الهمّ والأمل".
من جهته، اعتبر خليل خميس، وهو مدرب بأكاديمية المعلم الرياضية بغرب الحارات بأم درمان أن "كرة القدم على التراب ربما تكون ببساطتها ودفئها، أصدق وجه للحياة في مدينة تتعلم الشفاء من الحرب".
وبالنسبة لخميس، فإن "الكرة في الخرطوم لم تعد مجرد كرة، ولا الركلة مجرد حركة، هي نبضة قلب جماعية في مدينة فقدت إيقاعها".
أما أمين الشباب باللجنة الإدارية بالحارة (95) بدر الدين فضل الله فرأى أن "ظاهرة الكرة الترابية دليل على عودة الحياة بالخرطوم واستقرار الأوضاع الأمنية".
وأوضح فضل الله "لدينا الآن ثلاث أكاديميات في غرب الحارات، وتضم كل أكاديمية ناشئين وبراعم من سكان الحارات الأصليين والنازحين المستقرين بالمنطقة".
وتابع "لقد علّمتنا الحرب معنى الخسارة، لكن الكرة تعلمنا الآن فنّ البقاء، ما نفعله الآن ليس ترفا، فنحن نصنع من التراب مسرحا ومن الصمت نشيدا، وكأننا نقول وبصوت جماعي: إن الشفاء ليس وعدا من أحد، بل هو فعل جماعي يبدأ بركلة".